السبت، نوفمبر 09، 2013

جنايةُ المَدحِ على الممدوح

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الشاعر: 
وإن امرؤٌ مدَحَ امرأً لنواله 
 وأطال فيه فقد أرادَ هجاءَه

لي صاحبٌ أعاتِبُه –كثيرا- على مبالغتِه في الثناء، أو إكثاره منه، ليس تنقصا مني لمن مدح؛ بل لأن المدح إذا زاد عن حده انقلب ذمًّا؛ خاصة إذا سيق في غير موضعه؛ كأن تمجِّد (شخصًا) في مجلس لم يتبين للسامع فضلُ ممدوحك الذي استحق به هذا التمجيد.
فقد تجد حينئذ من السامع نقيض ما تريد؛ لأنَّك جعلتَ للممدوح صورةَ لابسِ الثوب الفضفاض الذي لا يتبين كمُّه من طرفه، ولا يظهر لك من لابسه إلانَفْسًا تتحرك داخل غطاء!
ولو أنك بينت للسامع الفضلَ الذي استحق به الممدوح ما نال؛ لعرفَ العلاقة بين «اللابِس» و«الملبوس».

وقد يكون السامعُ عارفا بفضل ممدوحك؛ لكن إسرافك في المدح هيَّج في نفسِه الحسد..

وأنت بذلك تفتح بابا للغيبة والبغضاء؛ دون قصدٍ منك!

وعلى المادح أن يقتصد في مدحه، وأن يضع الناس في مواضعهم، ثم عليه أن يُقِّدر موضع الكلام من الأحوال؛ فما في كلِّ وقتٍ (يحلو) المدح.

وقد رأيتُ من أمرِ صاحبي ما أكَّدَ لي صحة عتابي له ونصيحتي إياه؛ إذ ورد ذكر رجلٍ قريبٍ له، فانساق –كعادتِه- في الثناء، حتى أكثر، فهيَّجَ والدَه؛ فلم تطب نفسُ والده إلا بأن يذكر عيوبا لذلك الممدوح (المسكين)!.

فاقتصد أيها المادح في مدحك؛ فربَّ مدحٍ أظهرَ للناس -في الممدوح- عيبا.

وإنه ليسوؤني –في بعضِ الأحيان- أن أُمْدَح في مجمع من الناس، ويعودُ على نفسي من هذا المدح حرجٌ وضيق؛ وليس ذلك خوفاً من الرياء والعجب؛ إذ إن انقطاعَ النسب بيني وبين هذا المدح ظاهر؛ لكن ذلك من خشية الازدراء والتنقص الحاصل في نفوس السامعين تجاه الممدوح.

ولقد صدق ابنُ حزم رحمه الله حين قال:
«أبلغ في ذمك من مدحك بما ليس فيك، لأنه نبه على نقصك، وأبلغ في مدحك من ذمك بما ليس فيك لأنه نبه على فضلك، ولقد انتصر لك من نفسه بذلك وباستهدافه إلى الإنكار واللائمة». [رسائل ابن حزم: مداواة النفوس: 385]

ولبعضِ المدحِ جناياتٌ على الممدوح أخرى ..

اللهم أصلح قلوبَنا، واجعلنا من النمط الأوسط!

ناصر بن عبد الله الخزيِّم
16 / 1 / 1427 هـ.

[خاطرة] صِدامٌ بين الأماني العِذَاب


بسم الله الرحمن الرحيم

تتحرَّقُ النفسُ –أحيانا- عند طريقِ غاياتها؛ فتقفُ عند مبدئه تارة، ثم تركُض إلى أحدِ جنباته تارة أخرى، ثم تعودُ –وهي تهذي به- إلى مَبدئه ممنيّةً ذاتَها قَطْعَه.

وذلك التخبُّط عندِ ((الخطوةِ الأولى)) داءٌ شائعٌ بين عشَّاقِ العلم والثقافة.

فالفتى اليافع حين يحضرُ مجلسَ علمٍ تأصيلي، طُوِيتْ فيه الرُّكب، وعَلَتْ فيه السَّكينَة، وتحرَّكت فيه الأقلامُ على الدفاتر.. تثورُ نفسُه بُعَيد هذا المجلس شوقا إلى حفظ المتون، ومتابعة الدروس، واستذكار الشروح.

وتتحرّقُ على ما فاتها من مراقٍ للعلم النافع.. علم الكتاب والسنة.

وقد يَعْرِضُ لها اضطرابٌ في المشتهى وتقلّبٌ في الرأي ساعةَ الفكْرِ في الأجدى من الأساليب للوصولِ السريع إلى (العلم)؛ فهل يحفظ ((العمدة)) أم ((الزَّاد)) وهل يجلسُ إلى ذلك الشيخ أم ذاك، أو هل يبدأ بعلوم الآلة أم بفقه الدين، وهل يجمع بين فنِّ وآخر، أم يجمع نفسَه على واحدٍ منهما.

وليس غريباً حصولُ مثل ذلك؛ فقلّة التجربة، وثورةُ الحماس داعيتان إلى هذا التردد.

ومكرُ الشيطان قائدٌ إلى مزيد من التخبط.

إلا أنَّ أموراً استجدت في هذا العصر فَلقَتْ بحرَ الأماني المتلاطم إلى قنواتٍ صغيرة، اختلفَت منابِعُها، وتباعدَت مصابُّها.

فذلك الذي يشتهي العلمَ المؤصَّل في ساعة، يتحرّق على ((الفكر، والتحليل السياسي)) ساعةً أخرى، فيخرج عن سمت المتعلِّم إلى فخامة ((المفكّر))، فيشغل نفسَه بتصيد الكتابات الفكرية المشحونة بالنظريات؛ كي يفرع عليها ما يريد شرحَه من الأفكار..

والشهوتان متصادمتان، فالأولى طريق إلى العلم –إن صحت النية، وسلمت الطريقة-، والثانية سبيل إلى (التعالم) والتشدُّق -غالباً-.


والنّفسُ الطالبةُ للمجد إما أن تسلُكَ سبيل الجد فتصل إلى المبتغى، أو هي كالخرقة الخَلِقَة تمزّقها مُدى الأماني، أو تحرقها نارُ المَنون.


ناصر بن عبد الله الخزيِّم

١ / ٧ / ١٤٢٦هـ