الثلاثاء، نوفمبر 14، 2017

من الذرائع إلى الغلو أو الجفاء

من الذرائع إلى الغلو أو الجفاء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وصلى الله وسلَّم على رسول الله، أما بعد؛ فهذه إشاراتٌ عابرة، غرضها التذكير، فإنَّ الذكرى تنفع المؤمنين، أشير بها إلى مداخلَ ومسالكَ ذكر العلماءُ أنها تؤول إلى ضلال العبدِ عن السنة، فمنها:

1- الكلام في دين الله بلا علم، وهذا أصلٌ من أصول الضلال، قَرَنَه الله بالشرك فيه، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]. فمن تكلَّم بلا علم حكَمَ بجهلٍ، ومن غابتْ عنه الدلائل وأطرافُ المسائل تعلّقَ بالأوهام. وهذا شأن كل من حاد عن أمرِ تعالى {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24]، ( يظنون ) فاحذرْ أن تكون مثلهم.
2-إرخاء الأذن للشبهات وأهلها. فالشبهة تُفسِد التصور بتزيين الباطلِ وتقبيح الحق. قال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 41] قال العلامة ابن القيِّم رحمه الله: «يدلُّ على أنَّ العبْدَ إذا اعتادَ سمَاعَ الباطل وقبولِه؛ أكسَبَه ذلك تحريفًا للحقِّ عن مواضعه، فإنَّه إذا قَبِلَ الباطل أحبَّه ورضيَه، فإذا جاء الحقٌّ بخلافه ردَّه وكذَّبَه إنْ قدر على ذلك؛ وإلا حرَّفَه».[إغاثة اللهفان: 1/ 118، ط: دار ابن الجوزي].
3- ترك التحذير من أهل الشبهات بحجة أن هذا من الغيبة، والنتيجة: أن يتلقى الناسُ الأباطيل، بلا نكير، ويُعرضوا عن الناصحين، بحجة الإعراض عن أهل الغيبة! وبهذا انتشرت الكثير من الانحرافات. قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة، أو العبادات
المخالفة للكتاب والسنة، فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين».
4- التعصب للأشخاص والجماعات. ومن ذلك: أن يدور الشابُّ في فلَك صحبِه وجلسائه، ينظرُ بمنظارِهم، وينطلقُ من حماساتِهم، ويظنُّ أنه إن كان كذلك كانَ على الجادّة!
ومن ذلك –أيضا-: أن يتركَ الحقَّ في مسألةٍ لقول شيخه، أو يجعلَ ما شذَّ به شيخُه عن أقوال أهل السنة قولا لأهل السنَّة، وأقوالُ أهل السنة تأباه. وإنَّ من أخلص الدين لله حقا، لا يقدّم قولَ أحد كائنا من كان على الله ورسولِه صلى الله عليه وسلّم. قال مفتي البلاد النجدية الشيخ عبدالله أبابطين [ت: 1282هـ] رحمه الله: «ولمَّا كان قد سبَقَ في عِلْمِ الله وقضائه: أنَّه سيقع الاختلافُ بيْنَ الأمَّة، أمرَهم وأوجبَ عليهم عند التنازعِ الردَّ إلى كتابِ الله وسُنَّةِ نبيه؛ قال تعالى: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]...»[مجموع فتاوى ورسائل الشيخ: 721، ط: دار المنهاج بالرياض].
5- الإعراض عن العلم وأهله. فالعلم دواء الجهل، وحصن العقل، فمن وقع بين خلافات الناس، وخلا من العلم، افترسَتْه الشبهاتُ. ومن أعرض عن أهل العلم الربانيين؛ فليس الذي قِبَله سوى ضلالةٍ وصانع ضلالة.
6- الخلط بين العالم ومن دونه. وكم جرَّ هذا الخلطُ علينا من خلاف، يقول العالم بما يوجبُه العلمُ وتحثُّ عليه التقوى، فيترك الناسُ قولَه إلى قولِ شبيه بالعلماء وليس منهم! قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله: «وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنَّه أعلم ممن تقدم، فمنهم من يظن في شخص أنَّه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم؛ لكثرة بيانه ومقاله» [فضل علم السلف].
ولقد اشتد اللبس في هذا العصر، لكثرة المتصدرين، وفشو الضلالات. قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: «إنَّكم في زمان كثير علماؤه قليل خطباؤه، وسيأتي بعدكم زمان قليل علماؤه كثير خطباؤه»اهـ. وها قد كثر الكلام والخلاف وقل العلم والعمل والاتباع!
7- غلبَة العاطفة، فإنَّها إن غلبَت على العقل استصغر الحقائقَ، وحلَّقَ في الظنون. قال العلامة ابن القيم رحمه الله عن بعض من تغلبهم العاطفةُ: «...آفته من إعراضه عن العلم وأحكامه وغلبة خياله ووجده وما تهواه نفسُه» [الفوائد: 149، ط: المجمع].
8- اشتغال بعض المتعلمين في التضليل –بلا حق- والمبالغة في الاهتمام بأغلاط الناس، فإنّ هذا يصرف عن تدبّرِ العلمِ، ودلائل الحق إلى تتبعِ  كلام المخالفين، والجرأة على الأعراض، والهجوم على المسائل لأنها دارت بين فلان وفلان، والتعصب والتحامل، والانصراف عن الإنصاف، والسقوط في وحل الخصومات، والتنفير عن الحق. سُئل أبو قلابة رحمه الله، ما اضطر الناس إلى الأهواء؟ قال: «الخصومات». وإنَّ العلمَ والعدلَ والحكمةَ توقفُ طالبَ الحق –بصدق- على النمط الأوسط في هذا الباب.
9- الغمز والطعن في علماء السنة فإنَّ الطعان فيهم يحرم نفسَه من علومهم وهداياتهم، ويرد غيره عن الانتفاع بذلك، هذا مع ما عليه من وزر الظلم والإضلال. ﴿ليحمِلوا أوزارَهم كاملةً يومَ القيٰمَةِ ومن أوزارِ الذين يُضلّونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون﴾ [النحل: 25].
10- الاشتغال بعيوب ولاة أمور المسلمين، فإنَّ هذا المسلك الرديء يشحن قلوب السامعين على الولاة، ويُزيّن لهم مسالك الخوارج، وإنَّ الشاب إن نشأ على ذلك أنِفَ مما أوجبه الله من السمع والطاعة، وانصرفَ قلبه عن العلماء الآمرين بما دعت إليه السنة تجاه الحكام، وقد يقع في أحبولة من أحابيل الخوارج.
11-الغلو في تقرير مسائل التكفير والبراء، إلى حد الخروج عن مذهب أهل السنة إلى مسالك الخوارج.
12- المبالغة في منع التكفير إلى حدّ يخرجُ به صاحبه إلى مسالك المرجئة. وإنَّ الوسط والعدلَ فيما قررته الشريعة لا فيما اندفعت إليه العواطف ووقعت عليه ظنون الجاهلين.
13- الاغترار بالكثرة، قال تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } [الأنعام: 116]. قال الشيخ عبدالله أبابطين رحمه الله: «ومن له بصيرةٌ بالحق لم يغترّ بكثرة المُخالِف؛ فإنَّ أهلَ الحق هم أقل الناس فيما مضى؛ فكيف في هذه الأزمان التي غَلَب فيها الجهلُ، وصارَ بسبب ذلك المعروفُ مُنكَرا، والمنكرُ معروفًا» [مجموع فتاوى ورسائل: 793].

هذا، وإنَّ دروبَ الضلالة والصوارفَ عن السنَّة أكثر مما سبق، وقد ذكرتُ إشاراتٍ عابرة أذكِّر بها نفسي ومن يطالع ما كتبت، وأسأل الله أن يعصمني وإياك أيها المطالعُ الكريم من مضلات الفتن، وسوء العاقبة، وأن يجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.                                                
ناصر بن عبد الله الخزيّم
24 / 2 / 1439