الأربعاء، يناير 12، 2011

قيمة الكِتاب

بسم الله الرحمن الرحيم


لن تبذلَ النفيسَ إلا لما هو غالٍ عندك، ولن يكونَ «النفيسُ» غاليَ القيمة عندك إلا إذا عَلَتْ همَّتُك.


وإنَّ بضعةَ ريالاتٍ لكثيرةٌ عند خسيسِ الهمةِ في حق طبعةٍ جيدةٍ من «صحيح البخاري» أو «تفسير ابن كثير» أو «إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان» أو «زاد المعاد» -مثلا-، وإنَّ عشرات الريالات لقليلة -عنده- في حق حلوى بلجيكية أو بعض قطع الزينة للسيارة أو وجبة عشاء في مطعم فاخر...




يشهدُ لذلك: أن بعض من يحتاج ابنه أو ابنتُه كتابا مهما لغرضٍ مَدْرسي، يقلِّب وجهه في الناس ليسألهم إعارته هذا الكتاب (الذي قد يكون ذائع الصيت منتشرا في المكتبات مهمِّا لا ينبغي أن يخلو من مثله بيت، ورخيص الثمن)، وليس يحجزُ ذلك الباحث عن شراء الكتاب قلة ذات اليد؛ لكنه الزهد في النفيس!.




ثم تجده إن رغِبت إليه زوجته أغلى ما تلبسه النساء ويرتديه الأطفال: مسوقا إلى أكبر المعارض وأشهر الأسواق.




فهو قد جهِل بفضل الأول فزهد فيه وبخل بثمنه، وعرف وقع الثاني في نفوس كثير من الناس أو في نفس أهلِهِ فدرَّ لذلك جيبُه!.




هذا شاهدٌ واحدٌ على قيمةِ الكِتاب عند بعض أصنافِ الناس. وإني أخالك أخي القارئ لم تنجذب إلى قراءة ما تحت عنوان هذا المقال إلا لصلةٍ بين نفسِك و«الكتاب»، وأظنك تتشوف إلى أحدِ معنيين: إما قيمة الكتاب في النفوس، أو قيمته مِن الفلوس. وكلا الأمرين يشغلان ذهنَ محبِّ الكتب.


وأنت تعلم أنَّ الكتابَ لا ترتفع قيمتُه -في نفوس العارفين- بحسن دفَّتيه، ورونق رسوماته، وجودة أوراقه فحسب.. لكنه يكون رفيعَ القيمة مِن الفلوس إن بلَغ ذلك الحُسنَ والرونق.


ومن هنا أستطيع أن أحكم على رجلين: دفع أولهما مئات الريالات في حق كتاب واحد مستعمل قديم الطباعة، لا يخلو من شطوب ورتوق؛ لكنه نادر العين، ودسم المادة.




وأما الثاني فقد دفع مثل ذلك الثمن في كتابٍ جيِّد الطباعة والأوراق، بهيج المنظر، حسن التنسيق. غيرَ أنَّ مادتَه مكررة أو ضعيفة، وسيئة الضبط رديئة، غير محققة تحقيقا علميا.




فأقول: للناس فيما يعشقون مذاهب.


وإنَّ الأول عشِق علما ففداه بما دفع، والثاني عشق جمالا ففداه بما دفع.




وأذكر أنني رأيتُ مجلدا ضخما ذا طباعة فاخرة رائقة، فلما تصفَّحتُه وجدتُ في كل صفحةٍ منه بيتا من الشعر، فإذا هي أحد المعلقَّات! ويحق لي أن أقول إنَّ هذا المجلد الفاخرَ لا يساوي نسخة مستعملة شرِبَتْ من الغبار حتى شبعت: من شرح الأنباري على المعلقات!.


هذا، ولا أحب أن أخوض في أمر تفاوت الأسعار بين المكتبات، وما إلى ذلك، ولا في مسألة الفرق بين جامعِ الكتبِ وقارئها... بل أحب أن أقف عند الجانب الذي أشرتُ إليه في شأن نفوس الناس وما تهوى في شأن الكتب. لأشير بعده إلى أن للكتاب عند كاتبه قيمة أخرى، يقول إبراهيم المازني في مقالات له ضمَّها في كتاب: «...وقد جُمِعَتْ الآن وطُبِعَتْ وهي تابع المجموعة منها بعشرة قروش لا أكثر! ولستُ أدَّعي لنفسي فيها شيئًا من العمق أو الابتكار أو السداد، ولا أنا أزعمها ستُحدِث انقلابًا عسكريًّا في مصر أو فيما هو دونها، ولكني أقسِم أنَّك تشتري عُصَارَةَ عقلي وإن كان فجًّا، وثمرة اطلاعي وهو واسع، ومجهود أعصابي وهي سقيمة، بأبخس الأثمان»اهـ[حصاد الهشيم: 3].




هذه خواطر وإن شئتَ قل: «سواليف»، كتبتُها على عجَل، وهي لو خلَت «مِن العمق أو الابتكار أو السداد»، فلعل فيها ما يستدعي أفكارا كمُنَت في ذهن القارئ. فإنَّ الحجرَ لا يُحفظُ كما يُحفظُ الدُّر؛ لكنَّه يُرمى في الماء الراكد فيحرِّكُه.


ناصر

ليلة: 28 / 10 / 1431هـ

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

جزاك الله خير شيخ ناصر وبارك في علمك , اسأل الله ان يجعلنا من محبين الكتاب